استثمارات بمليارات الدولارات… هكذا تنوي سويسرا الرد على رسوم ترامب الجمروكية
تستعد سويسرا للرد بمليارات الفرنكات على الرسوم الجمركية الأمريكية. فوفقا لصحيفة "نويه تسورخر تسايتونغ"، في عددها الصادر نهاية الأسبوع، تعمل الحكومة الفدرالية ودوائر الأعمال السويسرية على وضع حزمة استثمارات مباشرة في الولايات التحدة بقيمة 150 مليار فرنك

وتهدف السلطات السويسرية من وراء ذلك إلى نزع فتيل أزمة التعريفات الجمركية التي أعلنت عنها مؤخرًا إدارة ترامب، التي فرضت على المنتجات السويسرية ضريبة بنسبة 31%، ثم خفّضتها إلى10% خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.
وتعتمد برن بذلك، وفقا لصحيفة “لوماتان”رابط خارجي السويسرية، الناطقة بالفرنسية، نفس الاستراتيجية التي اتبعتها خلال المفاوضات مع الهند: الإغراء من خلال الالتزام. وتقوم وزارة الاقتصاد الفدرالية حاليا بتنسيق هذه الخطة مع الشركات الصناعية العملاقة لرسم حدود هذا العرض الذي ستتوجّه به الحكومة السويسرية إلى الإدارة الأمريكية.
رسوم ثقيلة
وتطال الرسوم الجمركيّة الأمريكيّة الجديدة مختلف القطاعات، لكنّها تؤثّر بشكل خاصّ في بعض الصناعات التصديريّة الكبرى في سويسرا. وفي المقدّمة، يأتي قطاع صناعة الساعات، الذي تبلغ قيمة صادراته إلى الولايات المتّحدة نحو 4 مليارات فرنك سويسريّ، ثمَّ قطاع صناعة الآلات، الذي تُقدَّر صادراته بحوالي 3،1 مليار فرنك، إلى جانب قطاع تقنيات المعدّات الطبيّة.
وعلاوة على ذلك، تتأثّر بعض قطاعات المنتجات الغذائيّة، خصوصًا الشوكولاتة والأجبان، إذ تتجاوز صادرات كلٍّ منهما 100 مليون فرنك. وتطال الرسوم أيضًا منتجات القهوة، خاصّة كبسولات نسبريسو، التي تبلغ صادراتها نحو مليار فرنك سنويًّا.
وفي إعلانها الأوّل، فرضت الإدارة الأمريكيّة على سويسرا رسومًا بنسبة 31%، وهي أعلى بكثير ممّا فرضته على البلدان الأوروبيّة (20%)، في حين لم تتجاوز الرسوم على صادرات بريطانيا 10%. وقد أثارت الطريقة التي اعتمدتها الإدارة الأمريكيّة في احتساب هذه الرسوم اعتراضًا شديدًا من سويسرا وبلدان أخرى.
ومنذ الإعلان الأول عن الرسوم الجمركية، تواجه الشركات السويسرية المصدِّرة عبئًا مزدوجًا؛ ارتفاع الرسوم وتراجع تنافسيتها مقارنة بالبلدان المجاورة. ويتوقّع استطلاع أجرته منظمة رابطة الشركات السويسرية (economiesuisse)، التي تمثِّل قطاعات الاقتصاد السويسري، أن تتضرَّر أعمال نصف الشركات السويسرية المصدِّرة.
وفي يوم التاسع من أبريل حدث تحوّل دراماتيكي مفاجئ. فقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن تعليق غالبية الرسوم الجمركية الانتقامية لمدة 90 يومًا. ولكنه أعلن عن رسم عام بنسبة 10% فقط، واستثنى الصين من هذا القرار الجديد.
التهديدات المُحدقة
وفي ضوء الإعلان الجديد، ما زالت الصادرات السويسريّة تخضع لزيادة الرسوم الجمركيّة. ولكن، لم تعد هذه الزيادة هي الأعلى بين دول الجوار، على الأقلّ.
محتويات خارجية
ففور الإعلان عن الرسوم الجمركيّة بنسبة 31%، حذّرت الرابطة السويسريّة لصناعة الآلات والتجهيزات الكهربائيّة والمعادن، “سويس ميم” (Swissmem)، من أنّ الشركات السويسريّة الصغيرة “مهدّدة بفقدان هذا السوق [الأمريكيّ] بالكامل”.
وعلاوة على ذلك، تواجه الشركات المُصنِّعة تهديدًا إضافيًا يتمثّل في رسوم جمركية أمريكية إضافية نسبتها 25%، على قطع غيار السيارات.
وخلال العام الماضي، استقبلت السوق الأمريكية نحو 17% من صادرات الساعات السويسرية، ما يجعلها أكبر الأسواق بفارق كبير عن غيرها. كما استقبلت الولايات المتحدة 23% من صادرات سويسرا من الأجهزة الطبية.
وعلَّق أدريان هون، مدير رابطة التكنولوجيا الطبيّة السويسريّة (Swiss Medtech)، قائلًا: “لا تهدّد الحواجز التي تعترض الصادرات الشركات فحسب، بل تهدد أيضًا الوظائف، والابتكار، وأمن الإمدادات”.
وحتى الآن، لم تَطَل الرسوم الجمركية الأمريكية قطاع الأدوية. لكن ترامب أشار إلى إمكانية فرض رسوم جديدة على صادرات الأدوية في المستقبل القريب. وخلال العام الماضي، شكَّلت الصادرات الدوائية قرابة نصف إجمالي الصادرات السويسرية إلى الولايات المتحدة (نحو 31.2 مليار فرنك سويسري).
وبالنسبة إلى الشركات الصغيرة، التي تعتمد على السوق الأمريكية وليس لديها منشآت إنتاج هناك، تشكل الرسوم الأمريكية تهديدًا كبيرًا. وقد ينعكس ذلك سلبًا على الوظائف في الأشهر المقبلة. وكانت مجموعة “سويس ميم” قد طلبت من الحكومة السويسرية السماح بزيادة القوى العاملة، التي يمكن تحويلها إلى نظام ساعات العمل المخفّضة، الذي تدعمه الدولة.
وتجدر الإشارة إلى أن نحو ثلث الشركات (من أصل 1300 شركة) التي تمثلها رابطة “سويسميكانيك” (Swissmechanic)، وهي رابطة الشركات المتوسطة والصغيرة المُتخصّصة في الصناعات الآلية والألكترونية والمعدنية، كانت قد خفّضت بالفعل ساعات عمل موظفيها وموظفاتها قبل الإعلان عن هذه الرسوم.
وفي الوقت الراهن، يبلغ معدل البطالة في سويسرا 2.9%، ويُعد من أدنى المعدلات مقارنة بالدول المجاورة مثل ألمانيا. ووفقًا لتقديرات مركز الأبحاث الاقتصادية (KOF)، من المتوقع أن يبلغ معدل البطالة ذروته هذا العام عند حوالي 3%. لكن هذه التقديرات، التي صدرت الشهر الماضي، لم يجر تحديثها منذ أن صدر الإعلان عن الرسوم الجمركية.

ما هي التعريفة الجمركية؟ الدليل المختصر
وحتى الآن، لم تُطلق النقابات العمالية السويسرية أي تحذيرات جدية. وصرّح دانيال لامبرت، رئيس القسم الاقتصادي في اتحاد النقابات السويسرية (UNIA )، في منشور على إحدى المدونات بأن “الرسوم الأمريكية تُشكّل بالفعل مصدر إزعاج للصادرات السويسرية، لكن من غير المناسب المبالغة في تقدير أضرارها”.
وفي أكتوبر الماضي، نشر مركز الأبحاث الاقتصاديّة تقديرات حول تأثير الرسوم الأمريكيّة المتوقَّعة في سويسرا. وبافتراض رسوم بنسبة 60% على البضائع الصينيّة، و20% على بقيّة دول العالم، توقّع المركز أن يتباطأ نموّ الاقتصاد السويسريّ بنسبة تتراوح بين 0،2% و0،3%.
وستُعادل هذه الخسائر نحو 200 فرنك للفرد سنويًّا. وفي مقابلة مع قناة الإذاعة والتلفزة السويسرية الناطقة بالألمانية (SRF)، صرّح هانز غيرسباخ، الخبير الاقتصادي في المركز، بأن الخسائر ستكون أكبر إذا بلغت نسبة الرسوم 31%.
الردّ السويسري
كما جرت العادة، اتسم الرد السويسري على الرسوم المرتفعة والمقلقة بالهدوء والتحفّظ، بخلاف ردود بلدان أخرى.
ففي الصين مثلًا، رفعت الصين دعوى قضائية أمام منظمة التجارة العالمية، وأعلنت فرض رسوم بنسبة 84% على البضائع الأمريكية. وذلك ردًّا على قرار الولايات المتحدة رفع الرسوم الجمركية على الواردات الصينية من 104% إلى 125%، اعتبارًا من 9 أبريل.
بينما هدَّدت كندا بفرض رسوم جمركية انتقامية. وأعلنت كل من تايوان وإسبانيا عن دعم مالي حكومي لحماية الصناعات المتضررة من الرسوم الأمريكية.
أمَّا كارين كيلّر-سوتر، رئيسة الحكومة الفدراليّة السويسريّة، فقد صرَّحت في مؤتمر صحفيّ أنّ ما تعتبره الإدارة الأمريكيّة “شروطًا تجاريّة غير عادلة” مع سويسرا، يُشبه القول إنّ 1+1 يساوي 3. لكنها حذّرت من أنّ أيّ ردّ انتقاميّ متسرّع، قد يُلحق ضررًا أكبر بالاقتصاد.
وبدلًا من التصعيد، اختارت الحكومة السويسرية تحليل تأثير هذه الرسوم “باستفاضة” قبل اتخاذ أي قرار.
واتخذت خطوات شملت مكالمة هاتفية بين كيلّر-سوتر وترامب، وتعيين مبعوث سويسري خاص إلى الولايات المتحدة، وإنشاء فريق عمل متعدد الاختصاصات للبحث في سبل التعامل مع نظام الرسوم الجمركية الجديد.
وأكدت سويسرا “التزامها بسياسة التجارة الحرة، والأطر التنظيمية المستقرة، واليقين القانوني”.
أوراق التفاوض السويسرية
تجادل الحكومة السويسرية بأن الولايات المتحدة لم تحتسب في ميزانها التجاري الخدمات الأمريكية المصدَّرة إلى سويسرا، ولا سيّما تراخيص البرمجيات. ولو أُدرجت هذه الخدمات (21 مليار فرنك تقريبًا)، لنقص الفائض التجاري السويسري إلى النصف (18 مليار فرنك مقابل 38.5 مليارًا).
وفضلًا عن ذلك، تُعتبر سويسرا مستثمرًا رئيسيًّا في الولايات المتّحدة، فهي تحتلّ المرتبة السابعة بين أكبر البلدان المستثمرة هناك. ومن بين هذه البلدان السبعة، تعدُّ سويسرا المستثمر الذي يدفع أعلى معدّل أجور في الولايات المتّحدة، وتُشغِّل الشركات السويسريّة نصف مليون شخص فيها.
وترى الحكومة السويسرية أن مساعيها الحميدة، التي تقوم بها لصالح الولايات المتحدة في إيران، تُشكِّل ورقة تفاوضية إضافية يمكن استخدامها في ملف الرسوم الجمركية.
هامش المناورة لدى سويسرا
ولا تفرض سويسرا رسومًا جمركية على السلع الصناعية المستوردة، وبالتالي لا يمكنها تقديم تنازلات إضافية للولايات المتحدة في هذا المجال. أمَّا المنتجات الزراعية الأمريكية، فلا تزال خاضعة لرسوم جمركية. ووفقًا لتقارير إعلامية، تدرس سويسرا حاليًّا إمكانية تقديم التزامات استثمارية جديدة في الولايات المتحدة، باعتبارها ورقة تفاوض بديلة قد تسهم في تخفيف التوتر التجاري بين البلدين.
كما عبّر السفير الأمريكي السابق لدى برن، إدوارد ماكمولن، عن تأييده لموقف سويسرا.
بصيص الأمل
وفي حال لم ينزلق العالم إلى حرب تجاريّة شاملة تتبادل فيها البلدان الرسوم الانتقاميّة، ستكون سويسرا قادرة، إلى حدٍّ معقول، على امتصاص أسوأ آثار الرسوم الجمركيّة الأمريكيّة الجديدة، بحسب ما أكّده شتيفان غيرلاتش، رئيس القسم الاقتصاديّ في بنك إي أف جي (EFG)، في حديثه إلى سويس إنفو (SWI swissinfo.ch).
فبفضل الفرنك السويسري القوي، تحظى صادرات البلاد بميزة تنافسيّة مقارنةً بصادرات البلدان الأخرى في منطقة اليورو. ومن المرجّح أن يستمرّ إقبال الزبائن حول العالم على السلع السويسريّة الفاخرة، حتى إن اضطرّت الشركات المنتجة إلى رفع أسعارها.
ويقول غيرلاتش: “إن الصادرات السويسرية عمومًا، وبخاصة السلع الفاخرة، ليست شديدة الحساسية للأسعار. ويمكن للشركات المصنِّعة تجاوز هذه المشكلات بتغيير وجهة تجارتها إلى بلدان أخرى، وخصوصًا داخل أوروبا”.
وعلاوة على ذلك، يتوقَّع غيرلاتش أن تتحمّل الشريحة المستهلكة في أمريكا الجزء الأكبر من ارتفاع الأسعار، ويرجّح أن تنقل إليها الشركات المصنِّعة جزءًا من هذه الزيادات.
ويضيف غيرلاتش:” النتيجة الأكثر ترجيحًا هي أن يؤدي اضطراب التجارة إلى آثارٍ انكماشية [أي تراجع أسعار السلع والخدمات]، ما قد يؤدّي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي على مستوى العالم”.
ويستطرد قائلًا: “أمّا السيناريو الأسوأ، فهو ركود اقتصاديّ عالميّ ناجم عن تبادل الرسوم الانتقاميّة وتصعيد من جانب الولايات المتّحدة. وقد يؤدي هذا إلى عواقب وخيمة على بلد يعتمد على التصدير، كسويسرا. ومع ذلك، يظلُّ هذا السيناريو احتمالًا بعيدًا في الوقت الراهن”.
ومن جهتها، تتوقّع منظمة التجارة العالمية أن تؤدي رسوم ترامب الجمركية إلى خفض حجم التجارة العالمية بنحو 1% خلال هذا العام.