صحافة ورأي

صناعة الفخامة بين الحقيقة والدعاية

نشر عشرات من صانعي المحتوى الصينيين مقاطع فيديو من داخل مصانع يقولون إنها تزوّد العلامات التجارية الغربية الفاخرة بحقائب وألبسة تُبَاع لاحقاً بأسعار خيالية، بعد أن يُضَاف إليها أحد الشعارات الشهيرة وعبارة "صُنِع في إيطاليا" أو "صُنِع في فرنسا".

في وقتٍ تتّجه فيه الأنظار إلى الحرب التجارية المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة، ظهرت جبهة جديدة لا تقلّ إثارة، لكنها هذه المرة على منصّة “تيك توك”.

ينشر عشرات من صانعي المحتوى الصينيين مقاطع فيديو من داخل مصانع يقولون إنها تزوّد العلامات التجارية الغربية الفاخرة بحقائب وألبسة تُبَاع لاحقاً بأسعار خيالية، بعد أن يُضَاف إليها أحد الشعارات الشهيرة وعبارة “صُنِع في إيطاليا” أو “صُنِع في فرنسا”.

أحد أكثر هذه الفيديوات انتشاراً حصد أكثر من ستة ملايين مشاهدة قبل أن يُزَال، وكان لصانع محتوى يُدعى وانغ سينغ، وقف فيه أمام ما يشبه الجدار من الحقائب الفاخرة ليقول: “80 في المئة من الحقائب الفاخرة في العالم تُصنَع في الصين… ثم تُرسَل إلى أوروبا لتُركَّب عليها الشعارات وتُغلَّف من جديد”. وبحسب زعمه، لا تقوم العلامات التجارية سوى بوضع لمسات نهائية، بينما الجزء الأكبر من العمل يجري في مصانع صينية تديرها شركات تتعامل مباشرة مع كبرى دور الأزياء الأوروبية. وترافقت هذه المزاعم مع حملة تشجّع المستهلك الأميركي على الشراء مباشرة من هذه المصانع الصينية، للالتفاف على الرسوم الجمركية التي فرضها دونالد ترامب بنسبة 145 في المئة على المنتجات الصينية.

وبالرغم من أن شركات مثل “هيرميس” (Hermès) و”لوي فيتون” (Louis Vuitton) و”لولوليمُن” (Lululemon) سارعت إلى نفي أيّ علاقة تربطها بالمصانع المذكورة في هذه المقاطع، مؤكّدة التزامها بالتصنيع في داخل أوروبا أو بلدان أخرى محدّدة، محا النقاش الذي أثارته هذه الفيديوات الحدود ما بين الحقيقة والزيف، ليلقي الضوء على واقع سلاسل الإمداد الغامضة في قطاع المنتجات الفاخرة، وعلى كيفيّة تحوّل الصين من مجرّد مصنّع للعالم إلى مستهلك أساسيّ لهذه المنتجات أيضاً.

صحيح أن بعض قوانين الاتحاد الأوروبي تشترط أن يجري “التحويل الأساسي” لأي منتج في داخل أوروبا ليُعتبَر “صُنِع في إيطاليا” أو “صُنِع في فرنسا”، إلا أن الواقع أكثر تعقيداً. كثير من مكوّنات المنتجات الفاخرة، من الأقمشة إلى التغليف والملحقات المعدنية وحتى الخياطة الأولية، قد تجري في الصين، قبل أن يُشحَن المنتج شبه جاهز إلى أوروبا لوضع لمسات بسيطة عليه ليُمنح شهادة المنشأ الأوروبية. هذه الممارسة، وإن كانت قانونيّة في بعض الحالات، فإنها تفتح الباب على تساؤلات حقيقية حول قيمة “الفخامة”، وما إذا كانت ترتبط بالجودة، أم بالشعار والسعر والندرة فقط.

لفهم حجم هذه الصناعة، يكفي أن نعرف أن سوق المنتجات الفاخرة عالمياً تُقدّر عام 2025 بنحو 495 مليار دولار، منها 166.4 مليار للساعات والمجوهرات، فيما يُتوقَّع أن تبلغ نسبة مبيعات المنتجات الإلكترونية الفاخرة نحو 13.4 في المئة من إجمالي السوق. وتتصدّر الصين، لا أوروبا أو الولايات المتحدة، هذا المشهد بإيرادات تبلغ 110 مليارات دولار، متفوقة على الولايات المتحدة وفرنسا واليابان. لكن لماذا الصين بالذات؟

تبدأ الإجابة من التحوّل الجذري الذي شهدته الصين منذ بداية القرن الحادي والعشرين. قبل 50 سنة فقط، كان الجوع والفقر واقعاً يومياً للأغلبية من الصينيين، لكن التحولات الاقتصادية الجذرية، والانفتاح على الأسواق، والسياسات الصناعية الطموحة، قادت إلى معجزة اقتصادية حقيقية. في العقد الأخير من الزمن وحده، تضاعف الدخل الفردي المتاح للإنفاق تقريباً، مما أنتج طبقة وسطى واسعة وقاعدة من الأغنياء الجدد تُعَدّ من الأوسع عالمياً. واليوم، تضمّ الصين ثاني أكبر عدد من أصحاب الثروات الهائلة في العالم بعد الولايات المتحدة. هؤلاء لا يكتفون بشراء المنتجات الفاخرة، بل يطمحون إليها كرمز للارتقاء الاجتماعي. وبهذا، تحوّلت الصين إلى السوق الكبرى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ للمنتجات الفاخرة، وإلى عمود فقري لنمو هذا القطاع.

لكن هذه الحقيقة لا تنفي أيضاً الدور الذي تؤديه الصين في إنتاج المنتجات الفاخرة، سواء الشرعية أو المقلدة. فمع صعود نجم التجارة الإلكترونية عبر منصات مثل “شي إن” (Shein) و”تيمو” (Temu)، ومع استخدام تطبيقات التواصل للتسويق المباشر من المصنع إلى المستهلك، بات من السهل على أي شخص في نيوجيرسي أو باريس أن يطلب حقيبة تشبه حقيبة “بيركين” (Brikin) من “هيرميس” بـ60 دولاراً فقط، تُشحَن من مصنع في “يي وو”، من دون المرور بأيّ من قنوات الماركات المعروفة. هذه الظاهرة، وإن كانت تحمل مخاطر لجهة الجودة وانعدام الضمان، تكشف هشاشة الصورة التي بنتها العلامات الفاخرة على مدى عقود من الزمن، استناداً إلى السرية والرمزية والتفوق الأوروبي.

قد يرى البعض في هذه الفوضى الرقمية نهاية حتميّة للرأسمالية الفاخرة، أو بداية عصر جديد تكون فيه الفخامة في المتناول. وقد يراها آخرون فصلاً جديداً من فصول الحرب التجارية، إذ تُستخدَم الدعاية والتقليد سلاحاً للرد على العقوبات. لكن المؤكد هو أن صناعة المنتجات الفاخرة لم تعد محصّنة، وأن “تيك توك” لم يعد مجرّد منصة لعرض المواهب وغير ذلك كثير، بل ساحة معركة اقتصادية وإيديولوجية قد تعيد تشكيل معنى الفخامة كما نعرفها.

⚠ تنويه: المحتوى المنشور يعكس وجهة نظر كاتبه فقط، وإدارة الموقع لا تتبنى ذلك بناءً على سياسة إخلاء المسؤولية .
بواسطة
good-press
المصدر
النهار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

هل ترغب بتثبيت تطبيق Good Press على جهازك؟